الكمالية اللغوية: لما يصير الحرص الزائد عدوّ التقدّم
في بعض الجلسات التدريبية، ألاحظ نمطًا متكررًا بين الموظفين.
شخص يعرف كل شيء عن اللغة، يملك مفردات قوية، ومستواه ممتاز.
لكن لا يتكلم إلا إذا كان متأكدًا من الكلمة، الوقت، والنبرة.
يتوقف كثيرًا أثناء الحديث كأنه يحاول ضبط كل تفصيل
في النهاية، يخرج من الاجتماع وهو متعب، محبط، ويقول لنفسه: “كان ممكن أتكلم أفضل.”
هذا النمط يُسمّى الكمالية والتحكم الزائد (Perfectionism & Over-Control)، وهو من أكثر الأنماط التي تبطئ تطوّر اللغة عند المهنيين.
صاحبه يعيش في عقل مليء بالمراجعة المستمرة:
“هل الجملة صح؟ هل النطق سليم؟ هل الكلمة احترافية؟”
لكن خلف هذا السؤال هناك خوف واحد: الخوف من الظهور بنقصٍ أمام الآخرين.
من وين يبدأ الخلل؟
وفق دراسة نُشرت في Personality and Individual Differences (2021)،
الأشخاص ذوو النزعة الكمالية يظهر لديهم نشاط زائد في قشرة الدماغ المسؤولة عن المراقبة الذاتية أثناء التحدث، مما يقلل من سرعة استرجاع الكلمات ويزيد احتمالية التوقف المفاجئ أثناء الكلام.
بمعنى أبسط: كثرة التفكير تقتل الانسيابية.
وفي بحث آخر في Frontiers in Psychology (2023)،
وُجد أن الكمالية المفرطة في اللغة ترتبط بارتفاع مستويات Language Anxiety، أي أن الشخص لا يخاف من الخطأ، بل من فكرة الخطأ نفسها — وهذا يجعل الدماغ يعالج اللغة كـ “مهمة حساسة” لا كتواصل طبيعي.
كيف تعرف أنك تقع في هذا النمط؟
- تشعر أن أي خطأ لغوي “يقلل من صورتك المهنية”.
- تفكّر بالكلمة قبل أن تقولها أكثر مما تتحدث بها.
- تتراجع عن الكلام لأنك لم تجد التعبير المثالي.
- تخرج من الاجتماعات محمّلًا بالندم أكثر من الإنجاز.
إذا كنت تشوف نفسك في هذه النقاط، فاعرف أنك لا تعاني من ضعف لغوي، بل من تضخيم الصورة المثالية.
الحلّ لا يبدأ من اللغة، بل من إعادة توزيع الكمالية
الكمالية طاقة جميلة إذا وُضعت في مكانها الصحيح.
لكن لما تنتقل من جودة العمل الفني إلى التفاعل الإنساني، تتحوّل إلى عبء.
اللغة ليست لوحة فنية تُعرض… بل جسر تواصلي.
والمعيار في التحدث بالإنجليزية في العمل ليس “الكمال”، بل “الوضوح”.
خطوات عملية لتخفيف الكمالية اللغوية
١. افصل بين ما يحتاج الكمال وما لا يحتاجه.
الكمال مطلوب في التقارير، العروض، والعقود.
لكنه غير ضروري في الاجتماعات اليومية أو المحادثات العفوية.
حدّد ٣ مواقف في عملك تحتاج الدقة، والباقي اسمح لنفسك أن تتعلم بالخطأ.
٢. تقبّل الخطأ كجزء من الصورة.
في علم النفس السلوكي، يُستخدم مبدأ Cognitive Defusion — أي أن تتعلم أن ترى الخطأ كحدث، لا كهوية.
الجملة الخاطئة لا تعني أنك متحدث سيئ، بل أنك متحدث في تطوّر.
٣ .مارس “الحديث غير المثالي”.
خصص ٥ دقائق يوميًا تتحدث فيها عن موضوع عملك بالإنجليزية دون توقف أو تصحيح ذاتي.
بعد أسبوعين، ستلاحظ أن عقل المراقبة بدأ يهدأ.
٤. ابدأ من الرسالة وليس من اللغة.
قبل أي حديث، اسأل نفسك: “ما الفكرة التي أريد إيصالها؟” وليس “كيف أقولها بشكل مثالي؟”
العقل يهدأ حين يركّز على الهدف لا على التفاصيل.
في النهاية، الكمالية لا تضمن النجاح… بل تؤجله.
اللغة تُتقن بالممارسة، والاحتراف لا يأتي من غياب الأخطاء، بل من الاستمرار رغمها.
الكمال مكانه في المنتج، لا في الإنسان.
لأن الإنسان الحقيقي يُلهم عندما يُخطئ، ثم يُكمل بثقة.
محمد المنسّف
مختص في الإنجليزية للأعمال
الأستفسارات