من الطلاقة إلى التجنّب كيف يصنع النقد حلقة الخوف من اللغة؟

في أحد جلساتي الاستشارية الأخيرة، كنت أستمع لمدير تنفيذي يتحدث بطلاقة واضحة بالإنجليزية، مستوى لغته بين B1 وB2، يتحدث، يناقش، ويقنع. لكن عندما سألته عن سبب تردده في الاجتماعات الدولية،

قال جملة تختصر كثيرًا من معاناة القيادات الي تمر علي:

“طلعت مرّة اتكلم وسمعت احد المدراء ينتقد لغتي.”

هذه الجملة تتكرر أكثر مما نتصور. أشخاص بمناصب قيادية، خبرات عالية، حضور قوي، لكنهم يسقطون في فخ واحد: الخوف من الحكم الاجتماعي. الخوف من أن يربط الآخرون بين مستواهم اللغوي ومكانتهم المهنية.

في علم النفس السلوكي، هذا يُعرف باسم Social Evaluation Threat — وهو نوع من القلق ينشأ عندما يشعر الفرد أنه تحت المجهر. الدماغ يدخل في حالة دفاعية، وكأن اللغة أصبحت معركة لإثبات الذات لا وسيلة للتعبير عنها.

دراسة حديثة نُشرت في Journal of Occupational Psychology (2023) أوضحت أن 64% من التنفيذيين متعددي اللغات يعانون من انخفاض في الأداء اللغوي عند تعرضهم للتقييم المباشر أو النقد من مدير أعلى. ليس لأن لغتهم ضعيفة، بل لأن أدمغتهم تنقل الموقف من تواصل مهني إلى تهديد شخصي.

مع الوقت، يدخل الفرد في ما يُسمّى Avoidance Loop — دائرة التجنب:

يبدأ بتجنب المواقف اللغوية الحساسة، يقل استخدامه للإنجليزية في الاجتماعات، يفوّت فرص التفاعل، ومع الوقت يصدق الصورة الجديدة التي رسمها عن نفسه: “أنا مو جيد في اللغة.”

وهنا تكمن الخطورة. لأن الخوف من التقييم لا يجمّد اللغة فقط، بل يضعف الثقة، ويخلق فجوة بين المنصب والهوية.

المدير الذي يخاف أن يتحدث يصبح مستمعًا دائمًا، والمستمع الدائم يفقد تدريجيًا حضوره القيادي حتى لو كان فكره أعمق من الجميع.

هذه الظاهرة تكشف خللاً أعمق في ثقافة العمل: اللغة تُستخدم أحيانًا كمعيار سلطة غير معلن.

بعض المدراء يربطون بين “اللغة القوية” و“الكفاءة”، دون وعي بأن اللغة ليست مقياسًا للقيادة، بل أداة لإيصالها.

النتيجة؟ بيئة عمل تُقدّس من يتحدث بطلاقة، وتُقلّل ممن يتحدث بثقة ناقصة — رغم أن الاثنين قد يقولان نفس الفكرة.

من وجهة نظري، لا يبدأ الحل من التدريب اللغوي، بل من إعادة بناء العلاقة النفسية مع اللغة.

اللغة بالنسبة للقائد ليست أداة لإثبات الذكاء، بل جسر للتأثير. والمشكلة لا تكمن في ضعف المفردات، بل في الخوف من أن تُخطئ أمام من يراك “كبيرًا”.

الحل العملي يبدأ من ثلاث مستويات متوازية:

  1. الإدراك (Awareness): إدراك أن النقد اللغوي ليس تقييمًا لقدرتك، بل انعكاس لانطباع شخصي مؤقت. لا تخلط بين الملاحظة والسلوك.
  2. المواجهة التدريجية (Gradual Exposure): تحدث أكثر، ليس لتثبت أنك تجيد، بل لتكسر ربط اللغة = الخطر. الدماغ يتعافى من الخوف بالتكرار لا بالتحليل.
  3. التحويل المعرفي (Cognitive Reframing): عندما تسمع تعليقًا لغويًا، لا تراه تهديدًا، بل فرصة تدريبية حيّة.

اسأل نفسك: هل هذا النقد فعلاً يضيف قيمة؟ أم أنه مجرد رأي عابر؟

ومن زاوية المؤسسات، أرى أن المسؤولية ليست فردية فقط.

المنظمات بحاجة لخلق ثقافة لغوية آمنة، لا تربط “الكفاءة” بالنطق أو اللهجة، بل بالوضوح والفهم المتبادل. النقد اللغوي إذا لم يكن بنّاءً، فهو نوع من التنمر المهني المقنّع.

اللغة ليست هوية، بل وسيلة للتعبير عنها. وما يميز القائد الحقيقي ليس خلو لغته من الأخطاء، بل شجاعته في التحدث رغم وجودها.

محمد المنسّف

مختص في الإنجليزية للأعمال

مقالات ذات صلة

الأستفسارات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *